الخميس، 30 يونيو 2016

أحزان القبة – الفقر يقتل ويعيث فسادا بالأرواح

سيمفونية آلام القبة .... الفقر والأمن يسحقان الفقراء
أحزان القبة – الفقر يقتل ويعيث فسادا بالأرواح
طوق الحب هل أنقذ أحدا – أيهما أهم الفن أم الحياة ؟
محاكمة قاسية للأخلاق والدين والفن والحب والحياة
الراوية منحت قبلة الحياة لعمل درامي أقترب من الاكتمال
مباراة في التمثيل والموسيقي والديكور والملابس أبطال دراميين  .
الكتابة التليفزيونية أرتقت لمستوي الراوية وحلقت بعيدا

يهزك مسلسل أفراح القبة بقوة وقسوة وإمتاع يتجاوز التوقع في ظل دراما تجارية تحيط بك من كل جانب ، وكما في النص المسرحي للإيطالي (لويجي براندللو )( ست شخصيات تبحث عن مؤلف )حيث  تذهب 6 شخصيات للمسرح وتطلب من الفرقة المسرحية أن تضعهم في نص مسرحي وتحقق لهم الوجود الفني حيث أن مؤلفا كتبهم ونسي أن يضعهم في نص مسرحي ! نحن أمام شخصيات إنسانية أهملها المجتمع وجردها من آدميتها بقسوة وتركها دون أي رعاية .
تحولات العمل الدرامية تأتي بدخول الكومبارس تحية إلي حياة هذه الفرقة ، والتحول الثاني يأتي بقرار عباس بتأليف نص مسرحي يعري فيه الحياة الحقيقية لهذه الفرقة بكل عوارها .
وهكذا ندخل في لعبة مستويات الحقيقة وتداخل عالمي الحقيقة والخيال ، ونسبية الحقيقة وتكعيبيتها ، كما أن العمل يضعنا أمام فكرة فناء الحياة وخلود الفن ، بل أن علاقة بعض الشخصيات بالفن تتوازي تماما مع علاقاتها بالحياة ، فطارق رمضان وتحية  يدخلان في حوار مثير حول أسباب دخول كل منهما للتمثيل ، توضح أن المسرح يتحول إلي خشبة  للحياة كلها ، حيث تجد فيه شخصيات العمل ملجأ لها وملاذا ودرعا ومهربا  وسببا للوجود ذاته ، الكتابة ، في أعلي درجات الإبداع أخذت قبسا من نور الراوية المحفوظية وغزلتها وطورت الخيوط القليلة المنسوجة بتكثيف روائي لتصل ألينا عبر 30 حلقة شاهدنا منها نحو 18 أو 19 حلقة حتي الآن ، ومن المحزن أن ينسحب السيناريست محمد أمين راضي ، الذي سيقود لوجود لغة مختلفة حتما بدخول نشوي زايد ،لاستكمال العمل بداية من الحلقة 18 ، لكن العمل الذي لا يقدم مقولات مباشرة بل تتخفي الفلسفة بباطن الكلمات والمواقف واللحظات الدرامية ، وحتي في الصمت المتفجر حديثا صاخبا أحيانا ، الثورة تحدث عندما تدخل الكومبارس تحية إلي عالم الفرقة المسرحية التي تبدو وكأنها عائلة مستقرة التقاليد والمعايير ،ولكن دخول تحية يعري هذا العفن المبطن لجوهر حيوات العاملين بالفرقة ويفجر أسوأ وأجمل ما فيهم معا ، والبطل الحقيقي يتجلي علي خشبتي المسرح والحياة بكل أنيابه القذرة ،هو الفقر الذي يقود أسرة بدرية إلي مستنقع الرذيلة ببناتها الثلاث سنية وعليه وتحية ،وتقودهم حياة الدعارة إلي مصائر أكثر إيلاما فالحرق الذي يشوه وجوه بنات بدرية ،أقل بكثير من تشوهات عميقة طالت أرواحهم ،وحرمتهم  الحق في الحياة الطبيعية والقدرة علي الحب وعلي الشعور بآدميتهم ، الفقر يطل برأسه بقسوة في العمل فهو وراء سقوط هذه الأسرة بالكامل ، منضما لها القواد ....شبندي ، والفقر يقطع طريق المتعلمة الطموحة (عليه ) من أن تحقق حلمها كصحفية وزوجة ،وهو نفسه سبب سقوط الأم (بدرية ) أخلاقيا وقيادتها بناتها لذات الطريق ، وهو وراء تحطيم أحلام تحية في الحب والفن والزواج ! وينتهي بموت القواد شبندي والقوادة بدرية والعاهرة سنية ومقتل تحية الغامض! يستمر العمل ليعري لنا مجتمعا زائفا تقوده الجهات الأمنية من خلف ستار مسرحي ، فالصحفي الكبير هو مخبر أمني ينفذ الأوامر ويغيب الوعي ، وتساعده (علية ) التي تعمل معه وتتفوق عليه في القذارة وفي تقديم بلاغات في أقرب المقربين لها ، ولاينسي الكاتب أن يحاكم فكرة الأخلاق ذاتها فسنجد شيوع للجنس بين البنات الثلاث ،فلا مانع أن تطلب (عليه)  من القواد زوج أختها سنية  أن يمنحها طفلا حتي يستمر زواجها من الصحفي الأمني الكبير !الذي تزوجته غصبا بنسب طفل زور إليه ! وفالعمل يؤكد علي إستحالة وجود أى قيمة إنسانية  في ظل الفقر ، فالمادة معيارا لبدرية ولهذه الطبقة المسحوقة كلها ،وهي تدير مؤسستها الداعرة القائمة بتدوير أجساد بناتها الثلاث ، فعندما تحمل سنية يكون لزاما عليها لأسباب إنتاجية اقتصادية ،أن تجهض رغم عنها ،لأنها الفرخة الجنسية التي تبيض للأسرة ذهبا ،ولا مكان لفم جائع فقير جديد يزيد من معاناة الأسرة الاقتصادية ! فالقيمة للجنية ،في مجتمع يزداد فسادا وفقرا وتزداد فيه قبضة الأمن الذي يدير القوادين من كل الاتجاهات ،سواء أكانوا صحفيين أو عاهرات أو ممثلات أو صحفيات أو مدير المسرح نفسه ، ...في ظل هذا المناخ المحيط لا مكان ليس فقط للأخلاق ولكن لا مكان للحب ولا للصداقة ولا معني للعلاقات الأسرية السليمة ، فالإخوة يتشككون في إخوتهم لبعضهم البعض ، حيث أن الفقر قد أحدث هذا الشقاق والشرخ ،ثم التفتيت الذي أحدثه في أسرة (بداية ونهاية) لنفس النجيب عبقري الراوية العربية والعالمية ، فتضحيات نفيسة لم تشفع لدي أكثر المستفيدين من التضحية بل كان الأمين علي عملية قتلها ، وهكذا لا تشفع تضحيات سنية لها في أن يمنحوها مجرد حلم بسيط بأن تكون أما فقط لتشعر بآدميتها بعد أن تم انتهاكها مرارا وتكرارا .
الموسيقي :
عبرت موسيقي هشام نزيه عن الأحاسيس العميقة ،وأكملت الحوار الدرامي بل عزفت علي مشاعرنا ، ويأتي الديكور ليقدم مسرحا حميماً قريباً لقلوبنا وعقولنا وكأننا ذهبنا لهذا المسرح وشاهدنا أعمالا عليه دوما ،ثم ديكوارت منزل تحية برقتها وذوقها الفني الذي يعبر عن الجانب الرقيق والرومانسي في شخصيتها وديكور شقة بدرية بكل القحط والفقر والذي يعبر عن حفرة يصارع من فيها للخروج بكل الوسائل للخروج منها ، ثم ديكور شقة سنية بدلالات شقق الدعارة ، وتأتي ملابس (مونيا فتح الباب) لتعبر عن السمات النفسية للشخصيات وزمن الأحداث ، وخاصة ملابس طارق رمضان وتحية وسنية وعليه .
سيمفونية التمثيل :
مباراة أكثر من رائعة وأداءات ستسجل في تاريخ مني زكي وإياد نصار وسوسن بدر وصابرين ورانيا يوسف وصبا مبارك ، ولا أبالغ أن قلت أن كل الممثلين تقريبا أبدعوا ، ولكن دور مدير الفرقة المسرحية كان يحتاج اهتماما أكبر من ممثل بحجم جمال سليمان ، وهنا يمثل أمامي أداء روبرت دي نيرو في فيلم كازينو ، وربما لو أسند الدور لممثل مصري لأستلهم شخصية الفنان جلال الشرقاوي وأضاف إليها بعض الملامح لاستكمال الشخصية .
مني زكي تقدم أفضل أدوارها علي الإطلاق معبرة عن كل جوانب الشخصية من رومانسية وطموح ونقاء وصياعة وجنون وقوة وضعف ،وتشعرك أنها استلهمت شخصية زوزو  للفاتنة سعاد حسني وأن كانت شخصية تحية أكثر ثراء ، قدمت كل جوانب شخصية تحية بامتياز، وأن انتصرت لجانب تحية الباحثة عن النقاء والخروج من مستنقع الفقر بطوق الحب الذي صدمت بكونه طوقا مكسوراً أخذها للغرق ، بينما اختارت سنية الغرق بإرادتها بعد أن فقدت حياتها أي معني أو وهج ، وهي تؤكد أنها لم تعد تحب الدنيا ، وفقدت أي رغبة في استكمال استغلالها من أقرب الناس إليها ،وأجاد إياد نصار في تجسيد جملة متناقضات تحملها شخصيته فهو نصف ثائر ونصف عاشق ونصف إنسان ولكنه فنان مكتمل ،أناني وهارب من كل إشكال القيود وخاصة الزواج .
بدرية ( الأم شجاعة وأحيانا الأم دعارة )هي ضحية وجانية في دائرة الفقر الجهنمية ، وسوسن استوعبت الدور وقدمت واحدا من أجمل أدوارها ، سيدة من قاع المجتمع بكل التشوهات ، معيارها المال وهو مؤشر وموجه تحركها ، الشرشوحة المستأجرة للصراع ، هي داعرة مسنة تدير أجساد بناتها وفقا للمثل الشعبي ( القحبة لما تكبر تعرص.) ، وهي لا تجد حرجا في ذلك ، فالحمل ثقيل وعلي الجميع أن يدفع ، لتستمر الحياة وأن كانت ذليلة .
سلوي عثمان أداء عميق وفهم كبير وحساسية عالية للمرأة الفقيرة التي ذهب جمالها وتعلقت بحب شاب يصغرها تقوم برعايته والصرف عليه وترضي منه بالقليل فلا أمل لها علي خشبة المسرح فقد نسيها المؤلف الأعظم ،كما نسي أسرة بدرية ،ولكن وضعها أكثر صعوبة لأنها لا تملك أسلحة بنات بدرية وأنوثتهن المتفجرة ! ...كرم يونس الملقن ، المقهور فوق طاقته علي الاحتمال ،كتب عليه أن يكون مع الأموات ،حليمة  زوجته تأتي إليه بعد أن نال منها مدير المسرح ، وهو لا يجد لنفسه دورا ، وأحزانه بعمق عدم تحققه وبحجم إحساسه بالخديعة فقد خدع ليس من زوجة مفتقدة للبكارة ، ولكن من الدنيا التي أعطته اقل الأدوار ،وأعتمد صبري فواز علي صوته وتعبيرات وجهه وفترات الصمت للتعبير عن القهر الساكن في أعماقه .
صابرين حليمة الكبش تقدم دورا مميزا ، تجسد الحمل الوديع الذي يخدع ويسلب منها أغلي ما تملك ،في مشهد يحيلك فورا لمشهد البطاطا  في رواية وفيلم الحرام ، فلم تمتلك القدرة علي مقاومة مداعبات واستدراج مدير المسرح ، الفقر بطلنا المزمن يطل مرة أخري ويسرق حقها في الحب والحياة ، ونري تجسيدا للروح التي سرقت منها فجائيا ،لتصبح أحد أهم جثة تزوي بجوار زوجها في حفرة لا تقل خواءا عن حفرة التلقين .
دينا الشربيني (علية) ومحمد الشرنوبي عباس كرم وشهادة ميلاد فنية متميزة خاصة وأن دور عباس كرم دور صعب بالنسبة لشاب صغير وتشبه بداية نور الشريف الفنية في شخصية كمال عبد الجواد.
ويبدو أن خلافات العمل لم تشمل فقط انسحاب السيناريست المتميز محمد أمين راضي من العمل ولكنها تمتد إلي رفض كثير من النجوم وضع أسمائهم  في التتر ويبدو أنهم لم يوافقوا علي وضعية ترتيب الأسماء حسب .
وفق المايسترو محمد ياسين في اختيار واكتشاف  الممثلين بدرجة مذهلة بل وتقديمها في ثوب جديد ، صحيح صبغ العمل إضاءة ملونة مزعجة أحيانا لعين المشاهد ، ولكن تركيب وتداخل المشاهد بين الواقع والخيال المسرحي ،وتوظيف الممثل والعناية بفنه ، وإعطاء الممثلين مساحاتهم المستحقة دراميا ،والاهتمام بالتفاصيل ، وخذ مثلا مشاهد كالبلياتشو بين طارق رمضان وسرحان الهلالي ، أو مشهد حديث طارق رمضان وتحية عن أسباب دخول كلا منهما لعالم التمثيل ،و مشهد استدراج حليمة وفقدها لشرفها ، و مشاهد استعطاف طارق لتحية حتي تفتح له قلبها من جديد ، ومشاهد انتحار سنية  مع طفلها المتبني في تقاطعه مع صوت المذيع ، فقد أستطاع الجيش عبور قناة السويس ولكن لم يستطع الشعب تحطيم خط الفقر !وهناك مشهد احتراق بدرية وعلية ، أو مشاهد الصلاة الزائفة لأسرة بدرية بكل ما تحمل من كوميديا سوداء ، ومشاهد الرقص كمباريات تعبيرية بليغة ،يرد فيها الراقص علي زميله كما في البالية والرقص المعاصر ، مثلا  مشهد رقص تحية متحدية بطلة الفرقة صبا مبارك ،وهي ممثلة من الوزن الثقيل ونجمة أيضا وأن كان الدور المكتوب لم يخدمها ،كما لم يخدم أسامة عبد الله في دور المخرج ،ولا سامي مغاوري أو دور بطل الفرقة أسامة أسعد ،فقد نمطهم دون أن نفهم معاناتهم أو نقترب من عوالمهم أبدا ، والمخرج محمد ياسين مايسترو حقيقي يعني ويدرك معني الإيقاع باعتباره أهم فضيلة درامية ، وهكذا أستطاع بإدارته للعملية الفنية أن يبقينا علي قدر من التشويق ،وكأننا نتابع عملا بوليسيا رغم أن الحبكة البوليسية في العمل أو الجرائم هي نتيجة ،وهي فى الخلفية والدراما الإنسانية في المقدمة ، هل يوجد عمل مكتمل العناصر حتي الحلقة 18 تبدو أحزان أو آلام القبة علي هذا النحو ،ولا ينقصها سوي تلك الهنات التي ذكرناها في لون الكادر وفي إهمال بعض الشخصيات ، ولكن الحلقات من 19 إلي 24 تشهد اختلافا واختلالا بدخول يد أخري وروح أخري في الكتابة ، فقد أفتقد النسيج الثراء وظهر العمل كما لو كان إعادة نسج علي نفس الخيوط السابقة ، ورأيي أن كاتبا بحجم  محمد أمين راضي كان يجب عدم إغضابه أبدا واحتواء انسحابه من العمل لمصلحة المشاهد .

طارق عبد الفتاح
خبير إعلامي
Tarekart64@hotmail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق