الأحد، 3 أغسطس 2014

بروفة موت جماعى !

نشر في جريدة المشهد 5-11 أغسطس 2014
بروفة موت جماعى !

مشهد سينمائى واقعى حدث بالفعل لى ولأسرتى كلها ..سيارتنا فى إتجاه الدائرى أقود السيارة وزوجتى إلى  جوارى  وأبنى  نورالدين 5 أعوام فى الكرسى الخلفى ؟
.نور : بابا أنا شفت سيدنا يونس .
الأب : يا حبيبى أنت جميل شفاف ..مصدقك ..ربنا ينجينا ويحفظك .
دقائق ( السيارة فوق الدائرى على سرعة 80 كم ) ..مقطورة ضخمة تحاول المرور من يسارى دون آلة تنبيه  أو أى إشارة ....تصطدم  المقطورة بالرفرف الخلفى لسيارتى  خلف عجلة القيادة !تطير السيارة وتسقط لتدور حول محورها بسرعة وعنف خمس دورات مجنونة ..أنظر لزوجتى  أثناء الدوران..وشىء غامض جعلنى  لا أدوس على الفرامل ...ولكن مع كل دورة للسيارة تقترب السيارات الأخرى زاحفة نحو سيارتنا  ..ما هى الأ لحظات وتصطدم بسيارتنا  .!
...صمت رهيب ومع كل دورة للسيارة أتسائل هل ستصطدم العربات  القادمة بسيارتنا   ؟..أم ستقف قبل الإصطدام وهل تسمح لها سرعتها بالتوقف المفاجىء؟ ...كل ذلك والسيارة والزمن والحياة والعمر كله يدور ويلف مع دوران السيارة ....أثناء دوران السيارة كان من العجيب أن أقوم بالنظر إلى زوجتى المفزوعة الصامتة من هول الصدمة والمقيدة إلى حزام أمانها وهى فى حالة سيئة لا أستطيع وأنا  إلى جوارها أن أفعل لها شيئا والأعجب أننى  نظرت  للخلف لصغيرى  نور .هنا تبرز نظرية النسبية فما أقسى أن يكون أبنك وزوجتك قريبين وبعيدين فى نفس الوقت !هكذا تختلف المسافات كما يختلف الزمن فلحظات الحادث تساوى عمرا ممتدا والمسافة بينى وبين زوجتى وأبنى هى سنتيمرات وأفدنة فى الوقت ذاته !.. فى صمتى الجليل أنقل نظرى إلى السيارات الزاحفة زحف الموت صوبى !كل تلك النظرات عجيبة لأنها تحدث وأنت تدرك أن الموت قادم اليك فى خلال لحظات ومع كل دورة للسيارة يقترب أكثر ..ومن الطبيعى أن تفكر فى تلك اللحظات فى الموت وفى مصيرك فقط  ..أنها ليست المرة الأولى التى أواجه فيها الموت ..ولكنها المرة الوحيدة التى أقابله وجها لوجه وأقابلة شخصيا ...نور أبنى الصغير يسأل أثناء الدوران : بابا هو فيه أية ؟ أنظر له وأستمر فى الصمت المقدس .. ...يكرر نور : بابا فيه أية ؟
تهدأ حركة دوران السيارة وتتوقف مع توقف السيارات القاتلة تقريبا فى نفس اللحظة ....ما هذا الثبات والصمت الذى أنتابنى وما هذه الشجاعة والتقبل الكامل  لفكرة الموت مع أسرتى ! لم أعد أخشى الموت نفسه ؟
أقرب إحساس لمشاعرى ..هو نفس الإحساس الذى ينتابك وأن تلعب فى الملاهى لعبة تبدو خطيرة ولكنك تدرك أنك لن تموت بسببها ..نفس الأثارة المحدودة هى ما شعرت به ...رغم إدراكى هذه المرة أنها لعبة النهاية !
منذ أيام قليلة حدثت هزة أرضية قوية ..وأنتابنى نفس الإحساس ..الثبات والهدوء ....أيها الموت شكرا لك ..لقد أخبرتنى وأعلمتنى بوضوح بأننى لم أعد أخشاك بالفعل ؟ أسباب عدم خشيتى من الموت مجهولة بالنسبة لى ..لكن يمكن أن أخمنها ... ربما بسبب قبح الأيام ؟ ربما الملل والتكرار اليومى ...ربما الإحباط بشكل عام ! ربما التقدم فى العمر و إنسحاق الحلم ! ربما فشل الثورة ؟ ربما الإيمان بالقضاء والقدر ؟ربما رحيل الإعزاء فى سن مبكرة ! ربما إختفاء الدهشة من حياتى ؟ والموت يمثل أكبر الدهشات !ربما لأن الموت صار خبرا عاديا يحاصرنا كل يوم ...لدرجة أن أخر مقالاتى قبل الحادث حمل عنوان ( التطبيع مع الموت ) فقد صرنا نتناول طعامنا ونحن نشاهد الجثث والقتلى والأشلاء عبر التلفاز ..ولم تعد هذه المشاهد تحرك فينا أى مشاعر خوف أو رهبة ! ربما كل الأسباب السابقة مجتمعة !ربما !................مما أثار إنتباهى أن نور إبنى 5سنوات ...تذكر قصة سيدنا يونس وأكد أنه يرى سيدنا يونس ..دقائق قبل الحادث ...ربما يرى الأطفال ما لا نراه ....ربما أراد الله أن يكتب لنا عمرا جديدا فى ليلة القدر .....حمدا لله ..أنه جنبنا ميتة كهذه ...وأن كنت أرى أن ميتة كهذه ربما تضعنا فى درجة من درجات الشهادة ...صائم ومتوضىء وتلتقى الله فى ليلة القدر والموت بسبب حادث كما سمعت يعتبر نوعا من الشهادة ..هى ميتة رائعة بل هى حياة لأن الشهداء أحياءا وليسوا أمواتا ..........عموما الرضى بما كتبه الله فى كل حال ..الأ تشبه المقطورة الضخمة ( الحوت ) فى المحيطات !عندما توقفت على جنب وخرجت من سيارتى نظرت لسائق المقطورة من الطرف الأخر للطريق ويبدو أنه لم يتحمل نظرتى طويلا  وأنصرف مسرعا !
أثناء دوران السيارة لم أكن أفكر فى حياتى لحظتها ولم يمر شريط حياتى أمامى كشريط سينمائى كما يقولون فى الأفلام والروايات التى تعالج نفس الحوادث !..كل ما كنت أفكر فيه فقط هو نور أبنى وزوجتى نظرت لهما ربما معتذرا عما سأسببه لهما من ألم.. ما تملكنى أكثر ربما الإحساس بالذنب وبمسؤليتى عن الكارثة الجماعية القادمة !لا يمكن أن أنسى نظرة نور الحائرة لطفل يشعر بخطر غير مفهوم وأكبر من قدرته على التحمل وهو يسأل بابا هو فيه أية يا بابا ؟ ....هى لحظات يمكن إداركها وتجسيدها سينمائيا ووتقديمها بالتصوير البطىء وبدون صوت لأن كل الأصوات أختفت عدا نظرة نور الحائرة وصوته متسائلا .. هو فية أية يا بابا ؟ يمكننى الأن فقط أن أجيبك يا نور...فيه حياة وموت يانور ...حياة فيها الألم والمتعة والحزن والفرح والجرح والخوف والأمان والنجاح والفشل  .. حياة ستتعرض فيها لتجارب كثيرة لا تقل قسوة عما نمر به الأن من دوران مخيف ........فى طريق العودة من نفس الطريق الدائرى ! أسمه (دائرى ) أيضا ربما بسبب دوران السيارات فيه بنفس الطريقة التى دارت بها.. سيارتنا فى حركة الحياة والموت ! سألنى نور سؤالا أخر أضحكنى وأبكانى كثيرا ...قال لى ونحن فوق الدائرى بابا هو فية عربية كبيرة تانى ؟ ......لا يا حبيبى لا تخشى شيئا ....( وفى سرى قلت له ستقابل الكثير من السيارات الكبيرة فى حياتك يا صغيرى ...أعانك الله على تجنب شرورها وعلى تجنب أخطار الطريق ..الطريق الدائرى ..الذى نلف فيه جميعا ونصل فى نهايته إلى نفس نقطة البداية !


طارق عبد الفتاح  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق